يقول الحق جل وعلا في محكم آياته
لَقَدْ خَلَقْنَاالْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) والكَبَدُ والمكابدةُ
والمعاناةُ هي أبرزُ سماتِ الحياةِ الدنيا، لأن الدنيا دارُ عملٍ وابتلاء،
ولا يفارقُ الكبَدُ الإنسانَ في مختلفِ مراحل عمره، بمختلِفِ أنواع
المكابدةِ والبلاء، وهذا يقتضي من الإنسان الصبر.
والصبر فرضٌ على المؤمنِ، قال الله تعالى آمراً المؤمنين بالصبر: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْاصْبِرُوا ْوَصَابِرُواْ )، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أحمد: ( إن اللهَ عز وجل إذا
أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمَنْ صبرَ فله الصبرُ، ومن جَزِعَ فله الْجَزَعُ )،
فالإنسان أمام الابتلاء إما صابرٌ رغماً عنه كما تصبر البهائم، وإما صابرٌ
محتسبٌ راضٍ بما أراد الله سبحانه، وهو الذي له الصبرُ كما في الحديث
الشريف، أي له ثمرةُ الصبرِ أيْ أجرُهُ وثوابه.
والابتلاء ويليه الصبرُ علامةُ محبةِ الله تعالى لعبده كما في الحديث،
ومقابلُ الصبرِ هو الْجَزَعُ أي القنوطُ، وهو حرامٌ شرعاً، قال الله تعالى:
( قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ *
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ).
وأنواع الابتلاء كثيرة، قال الله تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ،الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـاإِلَيْهِ رَاجِعونَ *
أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، وهنا تأتي البشارة للصابرين من الله تعالى، وهم
الذين يحبسون أنفسهم على الرضا بما ابتلاهم الله به من خوف أو جوع أو نقص
في الأموال أو الأنفس أو الثمرات، ولكن جزاء هؤلاء عظيم: عليهم صلواتٌ من
ربهم ورحمة، بل زاد على ذلك بوصفهم بالمهتدين، فضلاً عن أن الصابر
يُوَفـَّى أجرَهُ بغير حساب كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسابٍ) ، والجنة جزاء الصابرين: ( أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنتَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء
وَزُلْزِلُواْ حَتَّىيَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ )، والنصرُ مقترنٌ
بالصبر، فلا يقفُ الأمرُ عندَ حدِّ البأساء والضراء، بل إنه يتجاوزه إلى
مرتبة الزلزلة، التي تمحّصُ القلوبَ والصدورَ، وهذه سنة النبيين والصالحين
من بعدهم، أنْ يُبْتَلَوْا فيصبروا ويحتسبوا، فينالوا رضوانَ الله تعالى،
وعُلُوَّ الدرجةِ والمنزلةِ، فهنيئاً للصابرين منزلَتَهم العظيمةَ عند الله
تعالى، وهنيئاً لهم أجرَهم غير المحدود وغير المنتهي.
فمنْ أولى من الصائم بالصبر
والاحتساب نظراً لما يعانيه طول نهاره من جوعٍ وعطشٍ وبُعْدٍ عن الملذات
والشهوات، ويتعلَّقُ التعلُّقَ الشديدَ بالله تعالى أكثر وقته من نهارٍ أو
ليل؟